المشهد الذي نعيشه في هذه الأيام لا يحتاج إلى التأكيد على صحة المنهج لأننا نرى واقعا على الأرض يترجم المعاني والمفاهيم إلى واقع مرئي، فترى رجالا صدقوا ما عاهدوا الله عليه لا يبالون بالموت وتهون عليهم الحياة في سبيل العقيدة والمبدأ، والذي يلفت الأنظار هو الثبات والاستمرارية والإصرار على مواصلة الطريق والسير في اتجاه تحقيق الأهداف المرجوة.

          وإن تعجب فأعجب من ثبات النساء والأخوات ويا له من منظر يشعرك بالفخر والتقدير لهذا الصمود واستمرار التعبير عن الرفض للنظام القائم وللمطالبة بحقوق الشهداء والمصابين الذين تعدوا الآلاف ولا زال نزيف الدم حتى يومنا هذا، ومازال التضليل والتدليس مستمرا مما يزيد الجميع إصرارا دون ملل أو كلل في الاحتشاد في المسيرات ليل نهار، وكيف يملون وهم في عبادة؟ وهل يمل المسلم من عبادة ربه أم يزداد سائلا إياه أن يتقبل عمله حتى يلقاه في يوم تجزى فيه كل نفس بما كسبت.

          إن الطريق بمعالمه التي تزيد المسلم ثقة في ربه واطمئنانا في نصره الذي وعد (وَعَدَ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا مِنكُمْ وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ لَيَسْتَخْلِفَنَّهُم فِي الْأَرْضِ كَمَا اسْتَخْلَفَ الَّذِينَ مِن قَبْلِهِمْ وَلَيُمَكِّنَنَّ لَهُمْ دِينَهُمُ الَّذِي ارْتَضَى لَهُمْ وَلَيُبَدِّلَنَّهُم مِّن بَعْدِ خَوْفِهِمْ أَمْنًا يَعْبُدُونَنِي لَا يُشْرِكُونَ بِي شَيْئًا وَمَن كَفَرَ بَعْدَ ذَلِكَ فَأُوْلَئِكَ هُمُ الْفَاسِقُونَ).

         

          يقول الإمام البنا:

          (إن طريقكم هذا مرسومة خطواته موضوعة حدوده ... فلا تيأسوا فليس اليأس من أخلاق المسلمين، وحقائق اليوم أحلام الأمس، وأحلام اليوم حقائق الغد، ولا زال في الوقت متسع، ولا زالت عناصر السلامة قوية عظيمة في نفوس شعوبكم رغم طغيان مظاهر الفساد، والضعيف لا يظل ضعيفا طول حياته، والقوي لا تدوم قوته أبد الآبدين) (وتلك الأيام نداولها بين الناس) (وترجون من الله ما لا يرجون).

          إن الدعوة الإسلامية لا تبنيها النصوص والنظم والهياكل فحسب، إنما يرفع قواعدها ويثبت أركانها المؤمنون بها، الداعون إليها، المضحون من أجلها، العاملون لتحقيق أهدافها، ذلك لأن الإسلام منهج حياة متكامل لم يترك أمرا من الأمور إلا ووضع له قواعد لإنزاله على أرض الواقع، فمنهج الله حين يطبق يطمئن النفس ويريح القلب ويثبت الأقدام على الطريق المستقيم؛ لأنه يوضح لك معالم الطريق منذ البداية، ويكشف مكنون النفوس الملتوية، فترى انحرافها وشذوذها منذ اللحظة الأولى التي يشرح الله فيها صدرك، ويبين لك طبيعة المعركة مع المناهج الفاسدة والمشاريع التي لا هم لها إلا متاع الحياة الدنيا، فأول المعالم قوله سبحانه: (أَرَأَيْتَ الَّذِى يَنْهَى * عَبْدًا إذَا صَلَّى * أَرَأَيْتَ إن كَانَ عَلَى الهُدَى * أَوْ أَمَرَ بِالتَّقْوَى * أَرَأَيْتَ إن كَذَّبَ وتَوَلَّى * أَلَمْ يَعْلَم بِأَنَّ اللَّهَ يَرَى) (العلق: 9 - 14).

          وكيف يعلمون وهم لهم قلوب لا يفقهون بها، ولهم أعين لا يبصرون بها، ولهم آذان لا يسمعون بها، أولئك كالأنعام بل هم أضل أولئك هم الغافلون، إن الغفلة نتائجها وخيمة لا يشك في ذلك عاقل.

          وهؤلاء القوم ليسوا سواءًا فمنهم الذي يقتنع بما تدعو إليه ولكنه يقول (قَالُوا بَلْ وَجَدْنَا آبَاءَنَا كَذَلِكَ يَفْعَلُونَ) ومنهم من يناقشك بعقل وروية ولكنه يخشى الملأ من حوله، فيتردد في القبول والاقتناع، والتاريخ مليء بهذا الصنف، وذلك ممن كانت لديهم أخلاق إنسانية يلتزم بها كالصدق والأمانة ونصرة المظلوم، بل الشهامة والرجولة، وهؤلاء حتى لو اختلفنا معهم في الرأي ولم يتأثروا بما تعرضه عليهم، إلا أنهم عفيفو اللسان، فهؤلاء صنف نحترمه، ونبحث عن نقاط الاتفاق التي تجمعنا معه ونطبق معهم قاعدة "نتعاون فيما اتفقنا عليه ويعذر بعضنا بعضا فيما اختلفنا فيه"، فلا عداء بيننا وبينهم ولكن تعاون وتوافق لتحقيق الأهداف المشتركة بصرف النظر عن اختلاف الدين أو اللون أو الجنس، فعبد الله بن أريقط المشرك هو الذي كان دليلا لرسول الله صلى الله عليه وسلم أثناء هجرته، والمطعم بن عدي وهو أيضا مشرك هو الذي دخل رسول الله صلى الله عليه وسلم في جواره، وما أكثر مثل هذه المواقف، والتاريخ شاهد على ما نقول.

          أما الصنف الجاحد الكذوب الذي يختلق المواقف، ويسند لك ما لم تقله، ويفتري على الله الكذب، فهم الكثرة الكاثرة الذين لا يجب عليك أن تسيغ السمع لهم، أو أن تضيع وقتك في الرد عليهم، فهم يقصدون شغلك وصرفك عن عظائم الأمور إلى سفسافها (فَذَرْهُمْ يَخُوضُوا وَيَلْعَبُوا حَتَّى يُلاَقُوا يَوْمَهُمُ الَّذِي يُوعَدُونَ).

          فحين يكون الأمر جدا لا هزل فيه، فمن الطبيعي أن تستفيد بوقتك لفعل الخيرات وتضم جهدك إلى جهد أخيك ليعمق الجدار ويكتمل البناء، فلا تضره سهام المناوئين، ولا أفعال المفترين؛ لأنه حصن حصين يحتمي به المؤمنون والذين وعدهم المولى بنصره وتأييد في الدنيا قبل الآخرة: (إِنَّا لَنَنصُرُ رُسُلَنَا وَالَّذِينَ آمَنُوا فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَيَوْمَ يَقُومُ الأشْهَادُ) وبشائر ذلك واضحة جلية، فشمّروا إن الأمر جد، ولا تبالوا بخفافيش الظلام الذين يرون الحق باطلا والباطل حقا: (فَإِنَّهَا لاَ تَعْمَى الأبْصَارُ وَلَكِن تَعْمَى الْقُلُوبُ الَّتِي فِي الصُّدُورِ).

          وهذا التصور هو من صميم منهجنا، فكم انضم إلينا أناس هم رجال بحق لا يسلمون بكل ما تقول وإن اقتنعوا برؤيتنا بكلياتها، بل يدافعون عن برامجنا، ويدلون بآرائهم وهم على خلاف في بعض ما تعرضه الجماعة من أقوال وأفعال وأفكار، بل منهم من يختلف مع الجماعة عقائديا لكنهم لا يبخلون علينا بآرائهم وتصوراتهم، والمسئولون أذن مصغية لهم تحترمهم وتحاورهم والشورى تحسم الخلاف بين الجميع وهم راضون بذلك.

          فهل ترى بعض هؤلاء المناوئين الكارهين للمشروع الإسلامي، ويبذلون ما في وسعهم للصد عنه، فإن تعجب فاعجب للسواد الذي ينشرونه في جرائدهم الصفراء وقنواتهم الحمراء حتى بعد أن قال الشعب كلمته، وانتصر المشروع الإسلامي في خطواته الأولى، فما زادهم ذلك إلا بُغضا وحسدا من عند أنفسهم، فزادوا من تضليل الناس، وافتروا الكذب، وسخروا من الرئيس المنتخب، وهم الذين كانوا يزينون للحاكم الفاسد كلَّ شر، ويشعرونه بأن آراءه إلهام، وأفكاره توفيق من عند الله، حتى لو كان كنزا إستراتيجيا لليهود وتابعا للأمريكان، ينهبون أموال الشعب، ويوزع الأراضي على المحاسيب بثمن بخس ودراهم معدودة، والأقربون يخصص لهم ما لذّ وطاب على حساب قوت الشعب، لا يهمهم أن البطالة تنتشر، والفساد يعم، وأصحابنا يصفقون تشجيعا للحاكم على فساده، وهم بذلك لا بد أن ينالهم من الحب جانب - كما يقولون - ومن النهب نصيب، فكيف يؤيدون الطاهر، ويعينون الصادق، ويتصدون للفساد وهم الذين يخافون أن تذهب ريحهم، وتنكشف حقيقتهم، وتظهر سوءاتهم، ويعلم الناس حقيقتهم، وإن كان كثير من العقلاء يعرفونهم ويكادون يشيرون إليهم بالبَنان ليحذرهم الشعب، ولا يقع في فخاخهم، وبفضل الله فقد استيقظ الشعب من غفلته، ووقف لهم بالمرصاد، وهيهات أن يعودوا لمقدمة الصفوف عند اختيار الحاكم صاحب الخلق الكريم وصاحب التاريخ المشرف والجهاد المتواصل، لذلك لم يعجب هؤلاء صلاة الرجل الفجر في مسجده، فإذا بهم يستنكرون ذلك، لأن ليلهم خمر، فلا يفيق أحدهم إلا بعد أذان الفجر، فحق لهم أن يسخروا من أهل الطاعة؛ لأنهم أهل المعاصي، والمولى سبحانه وتعالى يقول : (قُلْ كُلُّ يَعْمَلُ عَلَى شَاكِلَتِهِ) فلا تبتئس يا أخي الحبيب بما يقول المهزومون!!

          فلا تتعجب مما نسمع وترى أو تقرأ، فهذه سُنة الله في خلقه، فلقد سجّل لنا القرآن هذه الحقائق لهؤلاء: (وَإذَا قِيلَ لَهُمْ لا تُفْسِدُوا فِى الأَرْضِ قَالُوا إنَّمَا نَحْنُ مُصْلِحُونَ * أَلا إنَّهُمْ هُمُ المُفْسِدُونَ وَلَكِن لا يَشْعُرُونَ) فما بالك بأناس يشعرون (ومِنَ النَّاسِ مَن يُعْجِبُكَ قَوْلُهُ فِى الحَيَاةِ الدُّنْيَا ويُشْهِدُ اللَّهَ عَلَى مَا فِى قَلْبِهِ وهُوَ أَلَدُّ الخِصَامِ * وإذَا تَوَلَّى سَعَى فِى الأَرْضِ لِيُفْسِدَ فِيهَا ويُهْلِكَ الحَرْثَ والنَّسْلَ واللَّهُ لا يُحِبُّ الفَسَادَ * وإذَا قِيلَ لَهُ اتَّقِ اللَّهَ أَخَذَتْهُ العِزَّةُ بِالإثْمِ فَحَسْبُهُ جَهَنَّمُ ولَبِئْسَ المِهَادُ * ومِنَ النَّاسِ مَن يَشْرِى نَفْسَهُ ابْتِغَاءَ مَرْضَاتِ اللَّهِ واللَّهُ رَءُوفٌ بِالْعِبَادِ) (البقرة: 204 - 207).

          إن حاكمنا الشرعي من قبل أن يتسلم السلطة حاولوا تشويه صورته بل وشوهوا صورة مجلس الشعب وحدث ما حدث، وبعد أن ظنوا أنهم قادرون على صرف الذين لم يناموا في مشارق الأرض ومغاربها فرحا بانتصار الدكتور محمد مرسي، وهذه ليست خافية على كل ذي عينين، مع أن هذ النجاح ليس لشخص هذا الحاكم الطاهر، بل هو نجاح للفكرة وانتصار للمبادئ، فحاكمنا يقول: (لا نُرِيدُ مِنكُمْ جَزَاءً ولا شُكُورًا * إنَّا نَخَافُ مِن رَّبِّنَا يَوْمًا عَبُوسًا قَمْطَرِيرًا) (الإنسان: 9 - 10).

          وأصحابنا استيقظوا ليشككوا الناس في المشروع الإسلامي وأن يشل حركته حتى لا تظهر المشاريع العمرانية، ولا حل المشاكل المالية والاجتماعية، وفي فترة الدكتور محمد مرسي لم يلتفتوا إلى عجز الميزانية وقتها، ناهيك عن الانفلات الأمنى، والبطالة، والعشوائيات، ونقص السلع الغذائية، وتدني التعليم، والصحة، والتفاوت في الأجور، وحين ترى هذه العناوين الضخمة يخيل إليك من سحرهم وافتراءاتهم أنها من صنع أيدينا، والحمد لله فقد تبين الآن المفسد من المصلح.

          ولك أن ترى فجاجة وسخافة من بعض ما يسمون بكبار الكتاب، فمثل هؤلاء ليس بكبار ولكنهم (تولوا كبره) ويزيد افتراءاتهم حين يقول قائلهم: إن أصحاب المشروع الإسلامي هم الذين تسببوا في تقسيم السودان، وتدمير الجزائر، وحروب تونس، وانقسام حماس وفتح، ثم أردف قائلا - فض الله فاه -: إننا أهملنا الشورى والحرية، ومحاربة الفقر والفساد، فهل بقي شيء بعد ذلك لأصحاب المشروع الإسلامي الذي فشل من وجهة نظرهم إلا كانوا هم السبب فيه، فعلام إذن المحاكمات والأحكام التي صدرت للحاكم الفاسد وبعض أعوانه؟، أم أنه مظلوم وصحبه؛ لأنهم جميعا ليسوا سببا في هذا الفساد، ولكن الإخوان هم السبب وهم برآء براءة الذئب من دم يوسف.

          المهم نحن بصدد مشروع واضح وضعناه وأوضحناه، نعمل جميعا على تحقيقه ولنترك التفاهات ولا ننشغل بافتراءات المفترين، بل نمضي إلى العمل والعمل الجاد، فأمامنا تحديات كبيرة تحتاج إلى جهد المخلصين، وهم بفضل الله كثر، ولذلك فإننا الآن في حاجة إلى التصدي بالالتزام والصمود في وجه من يريد لهذا الشعب أن يعود إلى عصر القهر والذل والتبعية لأعداء الأمة، ونكون على يقين من أن كل محاولات استعادة النظام الفاسد لما كان عليه من قبل أمر مستحيل.

          لذا فإننا مطالبون بالمشاركة في إزالة كل عقبة نراها معوقة عن الوصول إلى أهداف الثورة، والمحافظة على هوية الأمة باعتبار الأزهر الشريف بعلمائه المخلصين والعاملين الذين أوقفوا أنفسهم لنشر رسالة الإسلام.

          ولا يمكن أن يتحقق ذلك إلا إذا كشف صناع الطغاة والمتزلفين والمنافقين الذين يحاولون أن يحيطوا بكل حاكم بهَالة من التعظيم، وبفضل الله، فإن الإيجابية في شعبنا بدأت تظهر بوضوح، مما يدعون إلى التفاؤل بأن هذه الإيجابية ستدفع إلى مشاركة الجميع في إبداء الآراء المفيدة، والبُعد عن كل قول لا ينبني عليه عمل؛ لأنه من التكلف الذين نُهينا عنه. وبذلك نحقق دولة المؤسسات التي نسعى لتحقيقها يشارك فيها الحاكم والمحكوم.

          والأمل الكبير في أن نقدم النموذج الفَذ الرباني الذي يفتح الله به قلوب العباد قبل البلاد، فتهوى إلينا وإلى نموذجنا البلاد الأخرى التي ترانا نقيم العدل والإحسان، خاصة العالم الغربي الذي يعيش اليوم مرحلة خواء كامل بعد أن فرغته حضارته المادية من الروح، فإذا ما رأوا النموذج العملي لدولة مدنية عصرية تطمئن نفوسهم لهذا المشروع الذي شوهته الآلة الإعلامية عمدا، فيرون كذبها ويقولون صدق الله، فيؤمنون ويعملون، والله نسأل أن يكون ذلك قريبا.