للشعب الفلسطيني العزيز أنصار ومؤيدون في ربوع العالم، تمتزج نصرتهم لفسطين بحب يدوم معهم مدى الحياة، فتنبض فلسطين في قلوبهم وتسكن في عقولهم،وترهف أحاسيسهم بالمعزوفة الفلسطينية، وحسب مقولة الشهيد أبوعمار، هم يتزوجونمن القضية الفلسطينية. من هؤلاء الأنصار المحبين لفلسطين وشعبها البطل، شيخ إيراني ترعرعت أعماق وجوده على حب فلسطين في عنفوان شبابه، وعاش حياته كلّها في سبيل ذلك مخلصاً وصادقاً، وآخر ما تفوّه به متحسراً قبل الشهادتين،وهو يلفظ أنفاسه الأخيرة، “يا ربي حرر فلسطين” كما تقول زوجته.

عندما كنت تزوره في بيته كأنك دخلت بيتاً فلسطينياً حيث الصور والمعالم تأخذك إلى فلسطين، ولمّا كنت ترافقه مشياً، يحدّثك عن فلسطين كأنك تمشي في شوارع غزة أو القدس ورام الله، ولمّا كان يبكي لفلسطين بحرقة، كأنك أمام فلسطيني لاجيء ذاق مرارة النكبة والنكسة، والتشرّد واللجوء، واليوم يحنّ لوطنه المسلوب ظلماً، ويريد العودة إليه حراً.

كانت فلسطين حاضرة في وجدانه، تلامس روحها شغاف قلبه، وتصدح نغماتها على ساحات فؤاده، كان يحدثنا كيف اغتيلت الفرحة من وجوه أطفال فلسطين، وحُرم الحنان والأمان بوجه أجيالها، وكُبلت أيادي من تبقى منهم بأغلال الاحتلال وقيود الأسر. فأينما كان يذهب،ويجلس ويتحدث، فلسطين كانت حاضرة في كلامه، متأوّها على حالها “آه يا فلسطين، كيف ضعت”، متحسراً على أمة المليار كيف ضاعت قبلتها الأولى، ثم، متفائلا بالله خيراً “بإذن الله ستتحرر فلسطين”.

كان تاريخاً فلسطينياً متجولاً في شوارع طهران وأزقتها وحاراتها،فحينما كان يتحدث إليك عن تاريخ ضياع فلسطين، كان يأخذ بيدك، وبالأحرى بقلبك قبل يدك إلى قبل 100 عام، فيبدأ بالحديث عن “وعد بالفور”، ثم “الاحتلال البريطاني”، كنا نقول: يا شيخ! الانتداب وليس الاحتلال، كان يرد غاضباً، لا، بل كان احتلالا بكل ما تعنيه الكلمة، ثم كان يتعرض لثورة “الشيخ عزالدين القسام”، و”الثورات الفلسطينية المتلاحقة”.

وعندما كان يحلّ معك بمحطة النكبة، فكان يجهش بالبكاء، والدموع تنهمر على خديه، فينقطع الحديث بضعة دقائق، إلى أن يتمالك نفسه مرة أخرى، ويستكمل،فيقول لك عن المآسي والمجازرإبان النكبة، من دير ياسين، والطيرة، وبلد الشيخ، وقتل الشيوخ والأطفال، قائلاً بحرقة وبكاء متواصل: “كان الجنود الصهاينة يذهبون بيتاً بيتاً فيقتلون الآباء أمام أعين أولادهم، ثم الأولاد والنساء والشيوخ، واحداً واحداً”.

استكمالاً لدرسه تاريخ فلسطين،كان يذهب بالأذهان إلى القدس عام 1967، ونجول معه بشوارعها وقصصها مع المحتلين عبر التاريخ، فيذكرنا في حارات القدس بقبلتنا الأولى، وأسرها، ثم ندخل المسجد الأقصى المبارك، فكان يعرّف بمعالمه، قائلاً: على هذه المساطب، درّس العالم الإيراني الشهير الإمام محمد الغزالي قبل مئات السنين، ثم عرج على حريقه عام 1968، بالقول:”أليس عاراً أن يُحرق الأقصى والأمة الإسلامية عاجزة عن حمل دلو ماء لإطفاء هذا الحريق الذي سيطال كلنا مستقبلاً، يا لها من مصيبة عظمى ألّمت بالمسلمين”.

فها هو الحريق وصل إلى بيت كل مسلم في منطقتنا المشتعلة بالنيران. بعد اطلالته السريعة على التاريخ البعيد والقريب لفلسطين، كان يعود بنا إلى أيام الشاه ونضاله لأجل فلسطين في إيران، معرّجاً إلى بداية عمله لأجل فلسطين عام 1950، أي عندما طرح “آية الله كاشاني”، والشهيد “نواب الصفوي” قضية نصرة الشعب الفلسطيني بقوة في إيران، فالشهيد نواب الذي أعدمه الشاه، كان على رأس المجموعات الشبابية الداعمة لفلسطين، وهو زار القدس والتقى بالحاج أمين الحسيني وصلّى في المسجد الأقصى المبارك، وشارك في مؤتمر علماء المسلمين الذي نظّمته جمعية إنقاذ فلسطين في بيت المقدس.

خلال أحاديثه عن فلسطين، كان يوصي بأن لا تخلو صداقاتنا من الحب والعمل لأجل فلسطين، وكان يذكر أنه كيف كان يستغل صداقته مع رئيس الوزراء الإيراني للدكتور محمد مصدق الذي أطاح به الإنقلاب (الأمريكي) في19 أغسطس 1953، لأجل نصرة فلسطين وتكثير أنصاره، وبعد الإنقلاب كما يقول الرئيس الإيراني الأسبق هاشمي رفسنجاني في مذكراته، أن شيخنا الجليل أهدى كتاب “القضية الفلسطينية” للكاتب أكرم زعيتر للدكتور مصدق، فأعجب الأخير بالكتاب، معطياً إيّاه مبلغاً من المال لشراء نسخ عديدة من هذا الكتاب وتوزيعها بين محبي فلسطين. علماً بأن الشيخ رفسنجاني نفسه قام بترجمة هذا الكتاب في تلك الفترة.

التقى بالرئيس الشهيد ياسر عرفات خلال زيارة الأخير إلى إيران بعد الثورة بفترة وجيزة، وكان من محبيه حتى إتفاقية أسلو، حيث أصبح بعدها منتقداً له ولبرنامج التسوية، ومناصراً لبرنامج المقاومة، فكان لا يرى تحرير فلسطين إلا من فوهة البندقية. تعرّض شيخنا المحب لفلسطين، 21 مرة للسجن أيام حكم الشاه، كان معظمها بسبب نصرة فلسطين، وتأسيسه جمعيات تدعم قضايا إسلامية، على رأسها القضية الفلسطينية، ومنها جمعية “المسلم الحر”، وكتابته مقالات وبيانات داعمة لها، وتوزيعها بين الشباب.

نصرته فلسطين، لم تقتصر على الأقوال، والمقالات، والبيانات والمنشورات، بل تعدّى ذلك كله إلى غرس حب فلسطين في عائلته من خلال اختيار أسماء رموز فلسطينية وعربية مناضلة لأبنائه، حيث سمّى بناته الثلاث بأسماء “فاطمة برناوي” (أول أسيرة فلسطينية)، و”جميلة بوحيرد” (المناضلة الجزائرية الشهيرة)، و”ليلا خالد” (المناضلة الفلسطينية المعروفة)، وأولاده بأسماء “ياسر” (الشهيد ياسر عرفات)، و”جمال” (جمال عبدالناصر)، و”صامد” (الصامدون في فلسطين). كما سمّى حفيدته بإسم ناشطة السلام الأمريكية “راشيل كوري” التي قتلتها القوات الصهيونية في غزة، وهي تدافع عن أهل فلسطين.

اشتهر قبل الثورة الإسلامية بالمناصر الكبير للشعب الفلسطيني لخطبه النارية، فحمل الشهرة نفسها بعد الثورة أيضاً، وأصبح يعرفه الناس بأنه رجل فلسطين في الجمهورية الإسلامية، نقل أنه عندما التقى بمؤسس الثورة الإسلامية، وتسلّم منه هدية، مازحه الإمام الخميني قائلاً: يا شيخ هذه الهدية لزواج بنتك وليس لفلسطين! في إشارة إلى عمله الدؤوب لأجل فلسطين والقضية الفلسطينية.

كان عالماً ومعمّما شيعياً مؤمناً بالوحدة بين المسلمين نظرياً وعملياً، وكان يتحدث عن الخلفاء الراشدين ورموز أهل السنة باحترام كبير، كذلك ومن الملامح الوحدوية في سلوكه، أنه قد رأيته مرات عديدة وهو يصلّي خلف الممثل السابق لحركة المقاومة الإسلامية حماس في طهران السيد أبو السائد مصطفى القانوع، وكان مصراً على أن يصلّي مأموماً مع الفلسطينيين، مفتخراً بالصلاة خلف مجاهد فلسطيني كما كان يقول.

كانت الكوفية الفلسطينية سمة من سماته، وكان يتقدم الناس في أي منشط يقام لأجل فلسطين، ورغم كبر سنه وتوصية الأطباء له بملازمة البيت إلا أنه في آخر أيام حياته كان مصراً على المشاركة في المؤتمرات والندوات التي كانت تُنظّم حول فلسطين والمقاومة، كما أنه كان حساساً جداً في استخدام مفردات ومصطلحات دقيقة حول القضية الفلسطينية، مثل استخدام الكيان الصهيوني بدلا من “إسرائيل”، هذه الحساسية كانت تبلغ مبلغاً يثير استغراب الناس، فعلى سبيل المثال، عند الحديث عن تحرير فلسطين، لم يك يتجرأ أحد أن يقول “إن شاء الله تتحررفلسطين” لأنه كان دائماً يؤكد: لا تقولوا هكذا، إن الله يشاء أن تتحرر فلسطين، بل قولوا بعون الله وإذنه ستتحرر.

أتذكر جيداً وجه الغاضب بسبب قولي ذلك حينما التقيته لأول مرة عام 1998، وبعد هذا اللقاء الذي بدأ عاصفاً لذلك السبب، كلما كنت ألتقي به، قبل التسليم عليه، كنت أقول: يا شيخ فلسطين ستتحرر بإذن الله وعونه، فكان يرد: أحسنت يا بُنيّ. لقد تعلمت الدرس جيداً! قبل وفاته بشهر تقريباً، عدته في بيته المتواضع في جنوب طهران وهو على فراش المرض، حيث جاءه أيضاً ممثل حركة المقاومة الإسلامية حماس د. خالد القدومي للعيادة، فقبل أن يبادر في الرد على تسليمه، صار يسأله عن فلسطين وآخر أوضاعها.

جلسنا معه لساعات، ثم استأذنته وباقي الضيوف لنغادر، إلا أنه أصرّ على البقاء وتناول الغداء في بيته، حيث قال لممثل حماس: أيُعقل أن استضيف فلسطينياً مجاهداً وأسمح له بالمغادرة دون أن يتغدى؟ فعليك بالبقاء وتتغدى عندنا.

وبعد أن استسلم وفد حماس لإصرار الشيخ، طلبت الإذن بالمغادرة، فقال لي مازحاً: أنت ضيف ضيفي الفلسطيني، فتغدينا عنده، وعلى مائدة الطعام، نحن نأكل وهو يتحدث عن فلسطين، حيث أنهينا الأكل، واللقمة الأولى في يده. قبل المغادرة، زرنا مكتبته المليئة بالكتب عن فلسطين، فقدّم مصحفاً قديماً هدية للدكتور خالد، ثم بعد التقاط صور تذكارية، استودعناه وودّعنا، فكان ذلك آخر لقاء يجمعني به.

نعم، هو الشيخ مصطفى رهنما، شيخ فلسطين في إيران، المناصر المخلص الصادق للقضية الفلسطينية، الذي وافته المنية يوم الأحد 29 سبتمبر 2013، عن عمر يناهز 88 عاماً، فرحمه الله رحمة واسعة، ورزقه جنات الخلد، وحشره مع الصالحين وشهداء فلسطين. كاتب إيراني (ماجيستر الدراسات الفلسطينية، كلية الدراسات العالمية بجامعة طهران)