إشارة: إذا استطاع محبو المعارف الدینیة وأستاتذة التاریخ والحدیث والأدب أن يؤدوا دَینهم للمجتمع ولطالبي المعرفة في أوانهم، فهناک دین آخر علی أعناق الأجیال الآتیة وهو نشر معلومات من الذین خلوا ولا یزالون يكتنفهم الغموض وعدم الکشف عن هویتهم مهما کانت الأسباب. فبین علماء السلف وباحثيهم في العقود المنصرمة بمنطقه الطالش کان الأستاذ هارون شفیقي من رواد هذه المهمة والذي اهتم بجمع معلومات حول الشخصيات الطالشیة البارزة سواء الدینیة أو الأدبیة أو العرفانیة

وکان النجاح له قرينا في أداء مهمته وهناک کثیر من الباحثین یستسقون من ینبوعه ومن أثره الخالد "عرفاء وعلماء عنبران" کمصدر وحید في تراجم علماء منطقة عنبران في الطالش. ومن أبرز هؤلاء الشخصیات الدینیة البارزة في القرن الأخیر یمکن الإشارة إلی الشیخ محمد سعید نقشبندي الطالشي العنبراني. ونحاول أن تکون لنا نظرة سریعة بمراحل حیاته الطیبة مقتبسا من کتابي "عرفاء وعلماء عنبران" بقلم الأستاد هارون شفیقي وکتاب "من عنبران إلی بخارا" بقلم الشیخ مظهر شفیقي حتی یعرفه طلبة العلم جیدا.

هو الشیخ محمد سعید النقشبندي أکبر أولاد الشیخ علي الطالشي العنبراني بن الملا عبدالحق بن کمال الدین بن الملا شفقة بن الملا عین الله؛ کان أبوه من متخرجي الحوزات العلمیة والعرفانیة بمنطقة کردستان وتعلم العلوم الدینیة عند الأستاذ البارز والمتمیز في عصره الملا عبد الله قزلجي رحمه الله والتحق بحلقة الشیخ عثمان سراج الدیني النقشبندي للوصول إلي التزکیة واکتساب التجارب العرفانیة وممارسة الریاضات الصعبة وعاد إلی الوطن بعد انتهاء مهامه لیبدأ بتوجیه الناس والدعوة إلی ما أنزل الله حتی ارتحل عن سن یناهز 95 عاما رحمه الله وطاب ثراه.

فترة المراهقة وتعلیماته الابتدائیة

ولد الشیخ محمد سعید سنة 1288هـ بقریة عنبران من القری الطالشیة وبدأ دروسه الابتدائیة ودراسة العلوم العربیة والإسلامیة کالصرف والنحو والقرآن والحدیث عند والده العالم والعارف واستمر دراسته في إحدی القری الآذربایجانیة عند الأستاذ محمد أفندي ومضی في سبیل التعلم حتی بلغ إلی المطول لسعدالدین التفتازاني وهو في الثالثة والعشرین من عمره وتعرف علی مبادئ الطریقة النقشبندیة وتاریخها وکان یحضر في حلقة ذکر والده. وقد کتب مؤلف کتاب "أردبیل والعلماء" عن الشیخ محمد سعید رحمه الله:

"هو من العلماء البارزین في طوالش ویعظمه أهل السنة بطالش، ودرس في مناطق عدة وکان معظم دراساته في مصر ویکلم باللغات العربیة والاسطنبولیة والفارسیة وکثیرا ما یسافر ملثّما وکنت قد رأیته ولکن لم أصاحبه وکان له البراعة في الإجابة والمهارة في المناقشة والبحوث العلمیة وکان ینشد الشعر".

والجدیر بالذکر أنه حین نبحث في ویکي پدیا عن محمد سعید النقشبیندي نجد هناک اسمین بهذا المسمی؛ أحدهما محمد النقشبندي الکردستاني الذي کان یعیش في إقلیم شاسع من الکردستان بإیران والعراق وأما شیخنا کثیرا ما یُعرف بالطالشي والجیلاني.

بدایة الدراسات الخارجیة

زیارة إستطنبول

في أوان شبابه سافر إلی استطنبول لإکمال دراساته وفقا لتقالید ذلک العصر وبقي فیها أربع سنوات في زمن السطان عبد الحمید ودرس في معظم المدارس الدینیة والجامعات آنذاک وحصل علی الإجازة التقلیدیة من العلماء الأتراك بتوقیع أساتذة معروفة کالحاج حافظ الحلمی.

إلی مکة المکرمة والمدینة المنورة

حب طلب العلم وتزکیة النفس جلبه إلی أم القری فسافر إلی مکة المکرمة حیث مکث هناک سنتین وعقد لقاءات مع کثیر من العلماء آنذاک ودارت بینهم مناظرات ناهیک عن الدراسة وإکمال المعلومات. ومن أکبر نجاحاته الحصول علی الإجازة المعتبرة من مدرسي المسجد الحرام وهذا جزء من نصه:

"فأجزت للفاضل الشیخ محمد سعید أفندي بن الشیخ علي أفندي الطالشي وفقنا الله وإیاه باللطف والفلاح وأنا الفقیر المعترف بالذنب والتقصیر خادم نعال العلماء وتراب أقدام الفقهاء عبد الکریم بن سید حمزة الدربندي أکرمهما الله بلطفه الأبدي المدرس في المسجد الحرام کرمها الله إلی یوم القیامة آمین والحمد لله رب العالمین. حررته سنة 1316 هجري".[علماء وعرفاء عنبران؛ ص 53]

في مصر

وبعد العودة من مکة المکرمة والمدینة المنورة انطلق إلی مصر لکي یحضر في المرکز العلمي الأعلی في عهده أی جامعة الأزهر الشریف ویتعرف علی العلماء والفقهاء بالقاهرة. فهناک لقي أحدا من أبناء طالش البارز حاج عبد الله السکوتي الذي بلغته الکفاءة إلی مقام مدرس خدیو مصر. واقتُرح علیه الإقامة بمصر وتصدي شؤون هیئة التدریس بجامعة الأزهر؛ ورغم حبه لهذا الاقتراح إلا أن والده خالفه في هذا الشأن قائلا: إن القاهرة مرکز العلماء وجامعة الأزهر مصدر العلم والمعرفة ولا حاجة إلی حضورک هنالک؛ أما أهلنا في عنبران ففي أمس حاجة إلی أمثالک کي تنهمر علیهم کالمطر وتسقیهم من شآبیب المعارف.

دور الشیخ محمد سعید في التطورات الاجتماعية والثقافیة في المنطقة

وحول تأثیر الشیخ في التطورات الدینیة والثقافیة في المنطقة ومنهجه الفرید في الدعوة لابد أن أقول إن منهجه کان واسعا وشاملا وبعیدا عن الانحیاز أو التطرف وهذا هو سر نجاحه العظیم. إن أسفاره إلی البلدان المتعددة والاحتكاك بشعوب وملل مختلفة وهبه نوعا من انشراح الصدر وسعة الفکر وبسبب هذه السعة الفکریة کان یحضر في حلقته کثیر من الناس علی مشارب مختلفة دون أی قلق؛ ولم یسمع في کافة تعالیمه وتعلیقاته کلمة بذیئة ولا أخلاقیة أو تصرفا مغرضا وبعد ارتحاله حزن الجمیع وصرخوا من فراقه ولایزال هناک کثیر من رجال مسنین إذا ذکروا أیام مصاحبتهم معه لا یخفون حزنهم وشجونهم.

وللشیخ خصال کریمة وسجایا سامیة ومن أبرزها أنه لا یعبأ کثیرا بالمناصب الاجتماعیة والدینیة الخادعة بینما اقترحت علیه کلها ولکنه رفضها مع أنها لا تنافي المبادئ الشریعة؛ التدریس في الجامعات المعتبرة في ترکیا والمدینة المنورة ومصر کلها ما کان مُهما بالنسبة له ولکنه كان یرغب في العودة إلی الوطن وتوجیه أهله ومواطنیه وقد جاءه ممثلون من دولة اندونیسا وعرضوا علیه أن یقبل مسؤولیة الشؤون الدینیة في تلک البلاد مع توفیر جمیع الإمکانيات الرفاهیة ولکنه رفضه أیضا ورجح العودة إلی وطنه طالش التي تشتمل علی جزء کبیر من محافظتي جیلان وأردبیل وجزء من بلاد آذربیجان وکانت له ذات أولویة خاصة.

وحين قدم الوطن أسس مساجد ومدارس کثیرة، منها جامع سیاهکو وبوته سر وپنسر في آستارا آذربیجانیة والمدرسة الإرشادیة في طالش الشمالیة قرب الحدود الإیرانیة الآذربیجانیة بآذربیجان التی دمرت إثر هجوم حکومة البلشویک ومحی إثره جزء من مکتوبات الشیخ.

الحدث المأساوي في حیاة الشیخ

کان للشیخ نجل وأربعة بنات وکان نجله محمد عاکف من نوابغ عصره تعلم معظم العلوم الإسلامیة عند والده ثم انطلق مع ابن عم له إلی المناطق الکردیة وأقاما في مدینة مهاباد ولکنهما لقیا حتفهما تحت ظروف غامضة ورغم البحوث الکثیرة من قبل الوالد والأقرباء ما عثرت علی أية معلومات من سبب موتهما ولا مدفنهما وانتظره الوالد المحزون إلی الأیام الأخیرة من عمره دون أن يحصل علی أي شيء.

رحلات دعویة

کانت للشیخ رحلات کثیرة حتی بعد العودة إلی الوطن. سافر إلی کثیر من البلدان المجاورة من أجل توسیع نشاطاته الدعویة والتربویة وتمت رحلاته في ثلاث مراحل:

في المرحلة الأولی سافر إلی آسیا الوسطی وزار داغستان وسمرقند وبخارا وتاشکند وخیوه وکتاب "من العنبران إلی البخارا" بقلم أخیه الصغیر الشیخ مظهر شفیقي الذی کان یصاحبه في هذه الرحلات یروي وقائعها.

والمرحلة الثانیة إلی الشرق الأوسط وزار مدن بغداد وکربلا والنجف ومکث فترة طویلة في خانقاه الشیخ عبد القادر الجیلاني ببغداد.

في المرحلة الثالثة ذهب إلی روسیا الإتحادیة وآذربیجان وروسیا وفي باکو استقبله "تقي أف" أحد الشخصیات البارزة وبناء علی طلبه أهداه الشیخ "میر محمد کریم" من علماء باکو تفسیره المسمی بـ"کشف الحقائق" وهذا الکتاب موجود في مکتبته في ثلاث مجلدات.

تاریخ الفوت ومدفنه

وفي النهایة وبعد حیاة حافلة بالخیر والبرکة توفي سنة 1369هـ في عمر یناهز واحدا وثمانین سنة ودفن جثمانه بمقبرة أولیاء عنبران جنب والده غفر الله لهما وطاب مثواهما.

بقیت من الشیخ مؤلفات عدة بینما ضیّع معظم کتبه حین اقتحام مدرسة الإرشادیة من قبل جنود الروس وحین نقلِ کتبه من الإرشادیة إلی عنبران نهبت أکثر من عشرة أحمال بغال من هذه الکتب؛ ومن أهم مؤلفات الشیخ یمکن الإشارة إلی:

1- مختارات من الأحادیث النبویة (عشرة أحادیث مع الترجمة).

2- شرح جزء من نهج البلاغة والکلمات القصار لعلي بن أبي طالب.

3- شرح مقالات وکرامات الأولیاء.

4- المراقبة في نهج المراقبة من وجهة نظر طریقة النقشبندیة.

5- رسائل النقشبندیة.

6- کتاب رد آراء أحمد کسروي.

7- کتاب نقد طرائق الحقائق بقلم نائب الصدر الشیرازي.

8- کشکول المسائل والنوا في الحکایات.

9- ترجمات مختلفة من الآثار العربیة.

10- مجموعة من الفتاوی.

11- الرسائل والمکاتب.